Friday, April 28, 2006

الأزمة الطائفية في مصر: واقع أججته النخب الدينية وبالغ فيه الإعلام

حادث الاعتداء على ثلاث كنائس بمدينة الإسكندرية الساحلية والصدامات التي شهدتها المدينة بين المسلمين والمسيحيين في الرابع عشر من الشهر الجاري كانت الأخيرة في سلسلة من الأحداث التي تكشف عن وجود مشكلة حقيقية بين المسلمين والمسيحيين في مصر. ولن ينجح أي بيان حكومي أو مظاهرة منظمة أو مأدبة إفطار مشتركة في إنكار هذه الحقيقة التي أصبحت واضحة للعيان
إن التوتر المكبوت بين عنصري الأمة المصرية يمكن الشعور به منذ وقت طويل في الشارع المصري حيث أصبح كل طرف يسعى إلى التعبير عن انتمائه الديني بوضوح، فالمسيحيون يرتدون صلبانا كبيرة والمسلمون يطلق رجالهم اللحى وترتدي نساؤهم الحجاب أو النقاب أو الخمار. ولم تعد مشاهدة تجمعات تضم الشباب المسيحي والمسلم معا من الأمور المألوفة

هذا التطور الكئيب في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر لم يحدث بين يوم وليلة، فقد شهدت الفترة الأخيرة عدة صدامات بين الجانبين بدءا بالضجة التي أُثيرت حول إسلام السيدة وفاء قسطنطين، وحتى أعمال الشغب التي أعقبت عرض مسرحية قيل إنها تسيء للرسول -صلى الله عليه وسلم- في كنيسة بمنطقة محرم بك بالإسكندرية، والصدام الطائفي الذي وقع في إحدى قرى جنوب مصر في يناير الماضي وخلف ثلاثة قتلى وعشرات الجرحىوتؤكد هذه الأحداث أن اعتداء الإسكندرية ليس حدثا معزولا
نفذه "مريض نفسيا" كما قالت الحكومة، وأن علاقة المسيحيين والمسلمين في مصر تمر بأزمة تعددت أسبابها

وينتشر النفور الذي وصل إلى حد العداء أحيانا بين الأقباط والمسلمين في مصر أكثر بين أوساط الشباب، الذين شكلوا أغلبية المشاركين في الصدامات الأخيرة بين الجانبين، ويعود في جزء منه إلى تزايد إحساس الشباب المصري بوجه عام بالاغتراب وافتقاده لمشروع قومي يحتشد وراءه واضطراب مفهوم الهوية المصرية لديه، ما دفعه للبحث عن تلبية الحاجة للانتماء في كنف الجماعات والمؤسسات الدينية. هذا الشباب لا يملك الخلفية نفسها التي يملكها جيل الآباء الذي خاض مسيحييه ومسلميه معا التحديات التي واجهت البلاد في الستينات وخاضوا معركة التصنيع وحاربوا العدوان الأجنبي جنبا إلى جنب.
هذه الهوة بين الشباب المسلم والمسيحي وإحساس كل منهما بأن "الآخر" غريب عنه غذاها، رجال الدين المتشددين من الجانبين المسيحي والمسلم، لا سيما مع تزايد المساحة الإعلامية الممنوحة لهم وإصرار بعض القنوات التلفزيونية على استضافة عناصر متطرفة من كل جانب للتحاور بصدد قضايا لا يمكن الاتفاق عليها، ما يعطي الانطباع بوجود صراع بين الدين الإسلامي والمسيحي

ولوحظ خلال الأحداث الأخيرة تحول في مواقف النخبة المسيحية التي امتنعت لوقت طويل عن إلقاء اللوم على المسلمين في أي صدام بين الجانبين وحاولت دائما التأكيد على أننا جميعا مصريون وأن أيادي العابثين والقلة المتطرفة تقف وراء أي خلاف
في الأحداث الأخيرة، نجد هذه النخبة تتهم المسلمين علنا ببدء العدوان وترفع شعار "بالروح بالدم نفديك يا صليب"، وتتحدث عن "مخاوف الأقباط"، ووصل الأمر إلى درجة مطالبة عضو مسيحي في المجلس المحلي بمدينة الإسكندرية السماح بتشكيل ميليشيا مسيحية لحماية الكنائس. وبدا للأسف أن البابا شنودة نفسه يوافق الأصوات التي تتحدث عن اضطهاد الأقباط في مصر، فقد التزم البابا شنودة الصمت حيال مطالبة المسلمين بالاعتذار عن عرض كنيسة مار جرجس لمسرحية "كنت أعمى والآن أبصرت"، والتي تحكي قصة شاب مسيحي دخل الإسلام ثم عاد إلى المسيحية بعد إدراكه "عيوب الإسلام"، ورفض البابا الاعتذار إلى جموع المسلمين الغاضبين الذين بدأوا اعتراضهم على المسرحية بطريقة سلمية إلا أنهم انقلبوا إلى العنف في ظل تمسك البابا بالصمت. وحين تكلم أخيرا في موعظة له يوم 26/10/2005م فإنه بكى أمام الجمهور وقال إن في قلبه الكثير لكنه يفضل الصمت لكي يتكلم الرب، ولا يخفى على أحد تأثير مثل هذا المشهد على الشباب المسيحي الثائر للاعتداء الذي وقع على الكنيسة كرد فعل على المسرحية.
وللبابا موقف آخر غريب يتعلق بإسلام السيدة وفاء قسطنطين، وهي زوجة قسيس أعلنت إسلامها وقال زوجها إنها أُجبرت على التحول إلى الإسلام، فقد اعتكف البابا في أحد الأديرة لدى ذيوع قصة السيدة وفاء وطالب الحكومة بتسليمها إلى الكنيسة، رغم عدم وجود أي مسوغ قانوني لتسليم سيدة راشدة إلى الكنيسة التي لا تملك سلطة عليها، ولم يتراجع حتى وافقت الحكومة على تسليم السيدة وفاء حيث نُقلت إلى أحد الأديرة ولم يعرف مصيرها حتى الآن
ولا شك أن بعض الأقباط يتبنون مواقف متعصبة لا تستند إلى الواقع، كما أن بعضهم يرضخ لضغوط خارجية تهدف لإثارة الفتنة في مصر، في حين يسعى البعض الآخر لتضخيم بعض الأحداث أو استغلالها من أجل الضغط على الحكومة للحصول على مكاسب معينة، إلا أن موقفهم المتشنج من أي اعتداء ولو رمزي على الدين المسيحي أو أحد أفراده يعود في جانب كبير منه إلى الخوف؛ خوف المسيحيين الذين تتراوح نسبتهم بين 5 و10% من الشعب المصري، على أنفسهم، وهو الخوف الذي ساهم فيه موقف بعض رجال الدين المسلمين الذين يتبنون خطابا متشددا ضد غير المسلمين، كما ساهم فيه بعض السياسيين العلمانيين الذين أغضبهم فوز الإخوان المسلمين بعدد من مقاعد البرلمان فزعموا أن فوز الإخوان بهذا العدد الضئيل من المقاعد يهدد الأقباط، كما أن جزء من هذا الخوف هو رد فعل على العداء المتزايد الذي يشعرون به من جانب بعض الشباب المسلم الذي تربى على يد شيوخ التطرف

وواقع الحال في مصر يُشير إلى وجود قدر من التعصب ضد الأقباط، إلا أن أي اضطهاد يُمارس ضدهم، هو حدث فردي وليس موقفا منظما أو جماعيا من مسلمي مصر ضد مسيحييها، ورغم تسبب بعض أفراد النخبة المسيحية في إثارة خوف أقباط مصر دون داع إلا أن اللوم الأكبر يقع على عاتق المسلمين، باعتبار أنهم الأغلبية التي كان يجب عليها احتواء المسيحيين وتهدئة مخاوفهم

No comments:

Post a Comment