Saturday, July 09, 2011

شئ في صدري


كان الصمت شعاري طوال الايام الأولى للثورة في مصر، شعرت أنه من "العيب" التعليق بالكلام أو حتى الكتابة على ما يجري في مصر وأنا بعيدة مئات الأميال أتابع من على كنبة غرفة جلوسي المريحة ما يجري في بلادي متمتعة بالأمان وبكل رفاهيات الحياة الحديثة بينما مصريون آخرون أشجع مني يُضربون ويُجوعون ويقتلون لإسقاط نظام مبارك.
الآن أشعر برغبة في الكتابة ولو لنفسي. قضيت طفولتي وأنا أحب مصر بمثالية وتفاؤل. لم يكن لي أي نشاط سياسي، لكني كنت أحارب الفساد على طريقتي. فأنا عندما انزل إلى الشارع أكون في حالة تأهب دائم، سواء للعراك مع سائقي التاكسي لفرض أجرة مجحفة لمشوار قصير، أو للشجار مع موظف بهيئة البريد لطلب رشوة مقنعة او للعراك مع أمين شرطة سمح لراكب سيارة فاخرة بزيارة مكان أثري بعد مواعيد العمل الرسمية في الوقت نفسه الي رفض دخولنا لهذا المكان. كنت أتصور أني في هذا شجاعة وإيجابية ووطنية.
وعندما دخلت كلية الإعلام وأنا مقتنعة بقوة الكلمة كان ذلك عام 1997 ولم يكن الشأن السياسي الداخلي هو الذي يستحوذ على تفكيري " المعارض" فما بين جريدة الأهرام الرسمية التي لا يشتري أبي غيرها والتلفزيون الحكومي الذي نراه مجبرين لعد وجود "دش" في منزلنا، كنت اسيرة الانحراف الإعلامي الذي جعل العراق وفلسطين قضيتتنا. أذكر أن أول وآخر مظاهرة خرجت فيها داخل الجامعة كانت لصالح العراق. كان مجرد التفكير في الخروج في مظاهرة "حقيقية" أمر مرفوض في أسرتنا. وأنا نفسي كنت في حالى يأس من التغيير لدرجة أني لم أكن أؤمن بالتظاهر أصلا. والآن إذا فكرت بصدق أجد أنه ربما كانت مصادرة أبي لحق التظاهر غطاء مشرف
يمنعني من فقد احترامي لنفسي وأنا اكتفي بالكلام فعلا. أنا أعرف أنه في ذلك الوقت كانت فكرة الاعتقال أو الضرب والتعذيب على أيدي عناصر الشرطة وقصص الرعب التي نسمعها عما يجري في الأقسام والسجون المصرية كفيلا بؤد فكرة التظاهر والعمل السياسي من البداية. وظل هذا الأمر "كشيء في صدري" دائما، يجعلني أسكت كلما هممت بالحديث عن الوطن والإجابية والمقاومة.
ثم اصابتني حالة من اليأس المطلق فلم يعد يهمني حتى ما يجري في فلسطين ولم أعد أتابع ما يدور في العراق فعندما تتكرر التفجيرات كل يوم يتحول الموت، على بشاعته، إلى روتين لمن يتابعون على البعد. لكن مصر ظلت دائما وجعا في قلبي لكني انتقلت من حب الوطن "بمثالية" إلى " بلدي أحبها كما تحب الأم طفلها المشوه" وإلا كيف تبرر لنفسك حب هذا البلد الذي يزداد ناسه سلبية وجشع وانتهازية يوما بعد يوم؟
كل هذا تغير عندما رأيت وجه خالد سعيد. مثلي مثلا الآلاف من المصريين الذي روعهم ما حدث لهذا الشاب الوسيم الناجح على أيدي عناصر شرطة فاسدين توحشوا حتى لم يعد من الممكن اعتبارهم بشرا. لم تبرح صورة خالد سعيد مخيلتي ولم أفتأ أفكر ماذا كان رد فعل أمه وهي تتعرف في هذا الوجه المشوه على ابنها؟ أعادني خالد سعيد للاهتمام بأمور بلادي. لكن الأمر لم يتعد الاهتمام والمتابعة، فما بين العمل وولدين في الخامسة وإقامتي خارج مصر كان من السهل أن "أبرر" سلبيتي.
لكني أزعم أن الآلاف كانوا مثلي حتى كان يوم الثلاثاء الأسود عندما لم يعد من الممكن تصديق ما يجري من هجوم على أشرف أبناء مصر في ميدان التحرير بكل الوسائل البدائية من خيل وبغال وجمال وقنابل مولوتوف وتجويع وحصار. وقتها أثبت الناس أن العنف لا يولد إلا التصميم. وأصبح الآلاف في التحرير... ملايين.
أما أنا فأين كنت؟ لقد فقضيت ليلتي على نفس الكنبة المريحة أتنقل كالمجنونة بين القنوات الفضائية الإخبارية وأكتفي من الفعل الإيجابي بالدعاء لله باكية لإنقاذ هؤلاء الشجعان الأطهار.
والآن بعد سقوط النظام وعندما لم تعد مصر "طفلي المشوه"، لا يفارقني هذا السؤال: هل لو كنت في مصر وقتها كنت نزلت إلى الميدان وهزمت الخوف؟ هل كان جلال اللحظة سيُحررني من خوفي؟ والآن لن أعرف أبدا لأن اللحظة فاتتني. لكن هذا لا يعني أن الفرصة انتهت. مصر مازالت تحتاج إلى الكثير وإذا كان " شيء في صدري" سيظل دائما لأني لم أشارك في ثورة التحرير، فمازال بإمكاني أن أقص لأولادي يوما كيف ساهمت في إعادة بناء مصر بإيجابية بعد نجاح الثورة. الأمر لم يعد يتطلب التضحية بحياتي، فشهداء التحرير قاموا بهذا الواجب بالفعل. الأمر أيسر من ذلك، فمصر الآن اصبحت بحاجة لكل الطاقة الإيجابية لأبنائها على الابتكار والبناء وكذلك على التصميم لتحقيق أهداف مات آخرون على أمل أن تتحقق. وهذه هي فرصتي والملايين مثلي الذين اكتفوا "بالكفاح من منازلهم" طوال السنوات الماضية.