عندما زرت تونس العام الماضي للمرة الأولى طاردني شرطي يرتدي ملابس مدنية وطالبني بإظهار بطاقة هويتي وعندما علم أني لست تونسية بل مجرد زائرة لبلاده اعتذر وانسحب واتضح أن سبب مطاردته لي هو ارتدائي الحجاب
والحقيقة أني لم أكن ارتدي عبائة سوداء أو نقاب أو حتى خمار، بل بنطلون جينز وتي شيرت وغطاء صغير للرأس ولكن يبدو أن هذه الملابس كانت "طائفية" أكثر من اللازم بالنسبة لرجل الأمن التونسي لدرجة توقيفه لي بسببها وفي اليوم نفسه قابلت في قطار الأنفاق سيدة تونسية مسنة نظرت إلى بسعادة وقالت "يزين سعدك" وكان سبب دعائها هو السبب نفسه الذي طاردني الشرطي التونسي من أجله "ارتدائي الحجاب
بعد هاتين الحادثتين بدأت أنظر حولي باهتمام أكثر فلاحظت أن عدد المحجبات في الشارع لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة ومعظم الفتيات والسيدات يرتدين ملابس تشعرك أنك في احد العواصم الأوروبية، وعندما حان وقت الصلاة لم أجد مسجدا فيه أماكن مخصصة للسيدات أما في المصالح الحكومية والمدارس والجامعات فلا توجد أماكن للصلاة أصلا لا للرجال ولا للسيدات
وخلال الأسبوعين الذين قضيتهما في تونس لم أخض نقاشا سياسيا واحدا ولاحظت أنه لا أحد يتحدث في السياسة أو يعلق على الاحداث الجارية سواء في تونس أو خارجها ، فالجميع يشكو من غلاء الأسعار وارتفاع الإيجارات وانتشار الطلاق وارتفاع سن الزواج والبطالة وحظر مواقع إلكترونية عديدة ولكن لا أحد يوجه أصابع الاتهام إلى الحكومة التونسية
والآن بعد انقضاء عام كامل على هذه الرحلة فوجئت برسالة من صديقة تونسية أحيت في نفسي الأمل في أن يخرج الشعب التونسي من غيبوبته الاختيارية والرسالة تضمنت خبرا منشورا في صحية المصريون عن مجموعة من الأساتذة الذين يشتكون من إسقاطهم من مناظرة "الكاباس" المعروفة في تونس بسبب انتمائاتهم السياسية. ومصدر المفاجاة كان أن هذه الصديقة التي تحدثت معها مطولا العام الماضي لم تبد اي اهتمام بالشأن السياسي او حتى الشأن العام في بلادها خلال الأحاديث التي جمعتنا
والآن تتوالي علي يوميا رسائل منها يبدو أنها تردها عن طريق مجموعة بريدية، تنتقد الوضع في تونس، كما أن هذه الصديقة التي كانت ملابسها متحررة بالنسبة لي كفتاة من أسرة محافظة، اصبحت ترتدي الحجاب، وليس وحدها في ذلك، فمعظم أصدقائي الذين زاروا تونس أخيرا لا يتحدثون إلا عن شيء واحد، زيادة عدد الفتيات المحجبات في الشارع وزيادة الإقبال على المساجد في أوساط الشباب خصوصا، ولست هنا بصدد الدفاع عن الحجاب او الهجوم عليه او الحديث عن شرعيته من عدمها لكني استدل من هذه التطورات على ظهور حراك جديد في الشارع التونسي فلم تعد قضايا الدين والسياسة خارج دائرة الحديث العام في بلاد عُرف عن شبابها اهتمامهم بأمرين فقط... الفتيات والكرة
ولن أزعم أن ملاحظاتي هذه تنبع من معرفة عميقة بالشأن الداخلي التونسي أو طبيعة الشعب والمجتمع التونسي، لكني فقط اسجل ملاحظاتي كزائرة عابرة لهذه البلاد . ونعود إلى الاختلافات التي لاحظتها على تونس بعد عام من زيارتي الأولى لها، حيث لاحظت ظهور عدد من المدونات الإلكترونية التونسية التي تتناول الشأن العام والسياسي في البلاد
ولأني من المفائلين دائما فقد اعتبرت هذه التحركات مؤشرا على انتقال الوعي السياسي من النخبة إلى الشارع، وإن كان يثير قلقي كون الدين هو المدخل إلى السياسة بالنسبة لكثير من الشباب. ومرة أخرى فلست هنا بصدد حسم قضية الدين والسياسة وتداخلهما ولكني اقصد من حديثي أنه بالنسبة لهؤلاء الشبافب الثورة على الأوضاع السياسية وتدهور الظروف المعيشية لم يكن هو المحرك لهم بل كان ترحكهم استجابة لخطب الدينية ودعوات رجال الدينعبر شاشات الفضائيات
ملاحظة أخيرة في هذا الموضوع غير المترابط والذي يعد جمع لأفكار متناثرة أكثر منه موضوع متماسك، هو الارتفاع غير العادي في تكاليف المعيشة، فكل شيء غال بدرجة لا تصدق. ورغم ارتفاع دخل الموظف التونسي العادي عن نظيره في دول عربية أخرى، إلا أن ارتفاع الأسعار يلتهم هذا الفارق في الدخل ليترك أرباب الأسر في نهاية كل شهر على حافة الافلاس. واتضح لي أن النظام التونسي يحكم قبضته على البلاد باستراتيجيتين معرفوتين لدى كل النظم الديمتاتورية: الإدمان الكروي واللهث وراء لقمة العيش
No comments:
Post a Comment